موضوع: منى سليم تكتب رضوى التي تخاف من الموت الثلاثاء ديسمبر 09, 2014 7:03 pm
(لا نحتاج أن نكتب عنها، فقط أن نقرأ لها حتى نتمكن أن نكتب عن أنفسنا بالشكل الصحيح). بيوم رحيلها، فاتتني صلاة الجنازة ، فقررت أن أقدم لها صلاة خاصة كان هذا حين جلست أمام المكتبة الصغيرة المكدسة بالأوراق و الكتب وأخرجت هذه الرواية الصغيرة لها «سراج». جريت أصابعي سريعا حتى وصلت للصفحات الأخيرة التي ذيلت بها «رضوى» كتابها ووضعتها تحت عنوان «تجربتي في الكتابة». كان هذا عام 1992 بعد عشرة أعوام من إنجاز تجربتها الأولى «الرحلة: أيام طالبة مصرية فى أمريكا”». بهذه السطور نقشت سرها، حاولت ببساطة مدوية عمقة أن تجيب عن سؤال : «لماذا أكتب؟» فجاءت بإجابة شديدة الصدق لا الصعوبة.. البداهة لا الغرابة، قالت: «أكتب لأني أخاف من الموت»! ما بين الحياة والموت .. في البرزخ الضبابي الذي يفصلهما عثرت «رضوى» على «الكتابة» وحًملت بما سطرته غيرها «أمانتها» أو هذا ما شعرت به أنا نفسي على الأقل. «أمانة» ليست بالضرورة تجاه آخرين،هى بالأساس تجاه أنفسنا … أنقل سطورها كما نقشتها هى قبل ما يزيد عن عشرين عام، وأختم صلاتي من أجلها بالدعاء لكل من يعشق هذه الحرفة أن يغفر له الآخرين شغفه بها وأن يجدوا فيما تنتجه يداه ـ على قدر صدقه ـ شىء يمس داخلهم وتر الحياة) .. قالت رضوى :
اكتب لأني احب الكتابة، اقصد أنني أحبها بشكل يجعل السؤال “لماذا” يبدو غريبا و غير مفهوم و مع ذلك فأنا أيضاً أشعر بالخوف من الموت الذي يتربص، و ما أعنيه هنا ليس فقط الموت في نهاية المطاف ولكن أيضاً الموت بأقنعته العديدة في الأركان والزوايا، في البيت والشارع والمدرسة، أعنى الوأد و اغتيال الإمكانية. أنا أمرأة عربية ومواطن من العالم الثالث وتراثي في الحالتين تراث الموءودة، أعي هذه الحقيقة حتى العظم مني وأخفاها الى حد الكتابة عن نفسي و عن آخرين أشعر أنني مثلهم أو أنهم مثلي. كنت أشعر بالانبهار أمام قدرة الإنسان على إنجاز كتاب او لوحة وكنت أتطلع إلى أمي بإعجاب إذ كانت قبل زواجها قد كتبت بعض قصائد (تترنم بأبيات منها او تغنيها وهى تحممني) ورسمت لوحات زيتية ما زالت معلقة على جدران بيتنا في المنيل، و لما تسلل إلى السؤال ما الذي حدث؟ .. لماذا توقفت؟! ارتبكت. شاركت عام 1969 في مؤتمر الأدباء الشبان بالزقازيق، و كان زملائي على قدر من الرحابة فاعتبروني واحدة منهم، كان بهاء طاهر و إبراهيم أصلان ويحيي طاهر عبدالله وعبد الحكيم قاسم وغالب هلسا وإبراهيم مبروك. و غيرهم ممن حضروا المؤتمر قد قدموا بشائر تشى بموهبتهم و لم أكن قد قدمت شيئاً تقنعني قيمته . وليت ظهري للكتابة وأنكرتها وانهكمت في الدراسة الأبعض الدراسات النقدية الأكاديمية ، أعددت الماجستير و أنجزت بعض الدراسات النقدية في عام 1980 على فراش النقاهة بعد أزمة صحية ممتدة أمسكت قلم وكتبت “عندما غادرت طفولتي وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمي و عمتى وجدت بداخله هزيمتهما، بكيت ولكني بعد بكاء وتفكير أيضاً ألقيت بالمنديل و سرت، كنت غاضبة، عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال : “ماذا لو ان الموت داهمني؟” ساعتها قررت أني سأكتب لكي أترك شيئاً في منديلي المعقود وأيضاً لأنني انتبهت ـ و كنت في الرابعة والثلاثين من عمري ـ أن القبول بالنسبي أكثر حكمة من التعلق بالمطلق وإن الوقت قد حان للتحرر من ذلك الشعور بأن على أن آتي بما لم يأت به الأوائل أو أدير ظهري خوفاً وكبرياء. بدأت في مشروع سيرة ذاتية، وجدتني أتعثر في كتابة العلاقة بين خاص وعام متداخلين متشابكين الى حد يصعب معه معرفة أحدهما من الآخر، و خفت من السقوط في الخطابية او الغنائية فتوقفت عجزاً و خوفاً و قررت أنني بحاجة الى “ورشة” أتدرب فيها وأتعلم، و كانت كتابة “الرلة: أيام الطالبة مصرية في أمريكا” هي الورشة التي أقبلت عليها واعية صفتها كورشة تأهيل. كانت “الرحلة” هي اول نص طويل أكمله، كنت اكتب يوميا من التاسعة صباحا وحتى الثانية ظهراً، تعلمت في هذخ الورشة اليومية إنجاز مشروع ممتد، اكتسبت “النفس الطويل” ان جاز التعبير اعتقد أن كتابة “الرحلة” أكسبتني ثقة في النفس و خففت من وطأة السؤال: “هل أصلح للكتابة؟” باختصار اكتسبت شيئاً من التصالح مع نفسي ككاتبة ممكنة، كان ذلك في نهاية عام 1981 “حجر دافىء” هي أول تجربة روائية لي كانت “الرحلة” نصاً سردياً طويلاً ولكنها كانت انتاجاً لتجربة عشتها و لشخوص عرفتهم، تدخلت طبعا في ترتيب المادة والتعليق عليها ضمناً او صراحة ولكني لم ابتدع أية واقعة أو شخصية مما ورد فيها أما في “حجر دافىء” فكانت المرة الأولى التى انتج فيها عالماً بسماته المكانية والزمانية وأسكنه شخصيات تحمل ملامحه وتتحرك في إطاره، و أعتقد أن ذلك لم يكن سهلاً بل كان محفوظاً بالمخاطر والعثرات التى لم أوفق في كثير من الأحيان على ما أظن في تجاوزها. كثيراً ما اتمنى التفرغ للكتابة، و كثيراً ما أفكر ترك عملي بالجامعة و لكن لا أجرؤ فأبدو لنفسي كأمرأة ترهقها حياتها الزوجية وأولادها العشرة وتراودها كل يوم فكرة تركهم والذهاب لا تملك، ليس فقط لأنهم يشكلون ثوابت حياتها ولكن أيضاً لأنها تحتاجهم وتحبهم، أضج بالجامعة وأحياناً اكرههاولكني انتمى إليها. الكتابة بالنسبة لي علاقة بأمور ثلاثة: علاقة بالواقع المحيط، علاقة باللغة و من ورائها التراث الثقافي والأدبي المتجسدين فيها ومن خلالها وعلاقة بحرفة الكتابة والخبرات المكتسبة في الورشة اليومية. و في ورشة الكتابة أرى نفسي تلميذة ينهكها ويجهدها حل المعادلات ثم يملؤها زهو أهوج ساعة الوصول إلى حلول، تتوارى الصغيرة خلف أمرأة تملؤها الثقة والفرح والاعتداد، و لكن اللحظة لا تدوم، تعود التلميذة تقضم أظافرها أمام معادلة جديدة او أمام السؤال: “هل أفلحت؟”. ثم تبقى الكتابة بعد ذلك حالة خاصة في كل مرة، مشروعاً الى حد ما، قائماً بذاته له دوافعه وملابساته ومقاصده. قلت أني أحب الكتابة لأني أحبها وأيضاً لأن الموت قريب، قلت أن الواقع يشعرني بالوحشة، وإن الصمت يزيد وحشتي والبوح يفتح بابي فأذهب إلى الآخرين أو يأتون إلى و ألمحت أنني أكتب لأنني منحازة (أعي العنصر الأيدلوجي فيما اكتب و اعتقد انه هناك دائماً، في أية كتابة) و لكن لو سألتموني الآن هل تكتبين لكسب الآخرين إلى رؤيتك؟ سأجيب بلا تردد : ليس هذا سوى جزء من دوافعي، أكتب لأنني أحب الكتابة .. أحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تدهشنى، تشغلنى، تستوعبنى، تربكني، تخيفنى، و أنا مولعة بها.